فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مثلما نقول: بيت الله، وهذا القول إن أُطلق فالمقصود به الكعبة المشرفة، وإن حددنا موقعًا وقلنا عنه: بيت الله فنحن نبني عليه مسجدًا، وتكون أرضه قد حُكرت لتكون مُصَلّى، ولا يُزاوَل فيها أي عمل آخر.
هكذا تكون الكعبة هي بيت الله باختيار الله تعالى، وتكون هناك مساجد أخرى هي بيوت لله باختيار خَلْق الله.
ولذلك فبيت الله باختيار الله هو قبلة لبيوت الله باختيار خلق الله.
إذن: فإن أضيف شيء لله تعالى، فهو يأخذ عظمة الحق سبحانه وتعالى، وقد قال لهم صالح: {هذه نَاقَةُ الله} [هود: 64] وهي ليست ناقة زيد أو ناقة عمرو.
ولم يلتفت قوم صالح إلى ما قاله صالح عليه السلام، ولم يلحظوا أن الشيء المنسوب لله تعالى له عظمة من المضاف إليه.
ومثال ذلك: ابن أبي لهب، وكان قد تزوج ابنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحين اشتد عناد أبي لهب للرسول صلى الله عليه وسلم، قال أبو لهب لابنه: طلق بنت محمد، فطلقها، وفعل فعلًا يدل على الازدراء، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أما إني أسأل الله أن يسلط عليه كلبه». فقال أبو لهب: إني لأتوجس شرًّا من دعوة محمد. ثم سافر ابن أبي لهب مع بعض قومه في رحلة، وكانوا إذا ناموا طلب أبو لهب مكانًا في وسط رحال الركب كله خوفًا على ابنه من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بأسد يقفز من الرحال ويأكل الولد، فهنا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر إلى الله فقال: «أكلك كلب من كلاب الله فكان كلب الله أسدًا».
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوضح لهم صالح عليه السلام: هذه الناقة هي الآية التي طلبتموها وقد جاءت من الصخر. وكان يقدر أن يأتي لهم بالجنس الأرقى من الجماد، وهو النبات، ولكن الحق سبحانه استجاب للآية التي طلبوها وهي من جنس الحيوان.
ونحن نعلم أن الكائنات الأرضية إما أن تكون جمادًا، وإما أن يأخذ الجماد صفة النمو فيصير نباتًا، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة فيصير حيوانًا، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة والفكر فيصير إنسانًا.
وكان من الممكن أن يأتي لهم صالح عليه السلام بشجرة من الصخر، وهذا أمر فيه إعجاز أيضًا، ولكن الحق سبحانه أرسل الآية كما طلبوها؛ ناقة من جنس الحيوان، وحامل في الوقت نفسه.
وطالبهم صالح عليه السلام أن يحافظوا عليها؛ لأنها معجزة، عليهم ألا يتعرضوا لها. وقال لهم: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64].
وهكذا وعظهم، وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله، وإن مسّوها بسوء ولم يأخذهم عذاب، فمن آمن به لابد أن يكفر.
إذن: فلابد أن يأتي العذاب القريب إن هم مسّوها.
وهم قد مسّوها بالفعل، وهو ما تبينه الآية الكريمة التالية: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ}
وجلسوا في منازلهم ثلاثة أيام ثم جاءهم العذاب.
ولقائل أن يقول: ولمَ الإمهال بثلاثة أيام؟
ونقول: إن العذاب إذا جاء فالألم الحسِّي ينقطع من المعذَّب، ويشاء الله تعالى أن يعيشوا في ذلك الألم طوال تلك المُدَّة حتى يتألموا حِسِّيًا، وكل يوم يمرُّ عليهم تزداد آلامهم من قرب الوعيد الذي قال فيه الله تعالى: {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].
الحق سبحانه هو الذي يَعِدُ، وهو القادر على إنفاذ الوعد، ولا تقوم قوة أمامه؛ لذلك فهو وعد صادق غير مكذوب.
على عكس الإنسان منا حين يَعِدُ بشيء، فمن الممكن أن يأتي وقت تنفيذ الوعد ولا يستطيع.
لذلك يقول لنا الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْئ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 2324].
لأنك إن قلت: أفعل ذلك غدًا، وتعد إنسانًا بلقائه لكذا وكذا؛ فقل: إن شاء الله؛ لأن الله تعالى لا يمنع ترتيب أمور لزمن يأتي، وإنما يجب أن يردف من يرتب الأمور بمشيئة القوي القادر حتى إذا لم ينجز ما وعد به؛ يكون قد خرج عن الكذب، لأن الله تعالى لم يشأ، لأن الإنسان إذا وعد، فهو لا يعتمد على إرادته، ولكن مشيئة الله تعالى تعلو كل شيء.
والفعل كما نعلم يقتضي فاعلًا، ومفعولًا، وزمنًا، وسببًا دافعًا، وقدرة تمكِّن الإنسان من الفعل، فهل يملك أحدٌ شيئًا من كل هذا؟
إن الإنسان لا يملك نفسه أن يعيش إلى الغد، ولا يملك من يعده أن يوجد غدًا حتى يلقاه، ولا يملك أن يظل السبب سببًا للِّقاء؛ فربما انتهى السبب، ولا يملك حين تجتمع الأسباب كلها أن توجد له قدرة وقوة على إنفاذ السبب.
إذن: فإذا قال: أفعل ذلك غدًا مع فلان؛ يكون قد جازم وتكلم في شيء لا يملك عنصرًا واحدًا من عناصره، فقل: إن شاء الله، أي: أنك تستعين بمشيئة من يملك كل هذه العناصر.
ويعطي الحق سبحانه في كل لقطة إيمانية من اللقطات، قدرته على خلقه فهو سبحانه القائل: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].
وقوله: {فِي دَارِكُمْ} لأن من هؤلاء الذين كفروا قومًا في مكان يختلف عن مكان آخر يوجد به أيضًا قوم كافرون، ومنهم المسافر، ومنهم العائد من سفر، فتتبعهم العذاب حيثما كانوا، فلم ينزل على مكان واحد، إنما نزل على المكين منهم في أي مكان.
ولم يَنْجُ من هذه المسألة إلا واحد اسمه أبو رغال، وكان يحج إلى بيت الله، فلم يتبعه عذابه في بيت الله؛ لأن الله سبحانه طلب منا نحن عباده أن نؤمِّن من دخل بيته، فهو سبحانه وتعالى أوْلى بأن يؤمِّن من دخل البيت الحرام، وظل الحجر الذي سيُضرب به، أو الصيحة التي كان عليها أن تأخذه، ظلت إلى أن خرج من الحرم فوقعت عليه.. وعَمَّ العذابُ الكافرين من قوم صالح، وتتبع من في الديار إلا هذا الرجل، وما إن خرج من البيت الحرام حتى وقع عليه العذاب.
ولذلك كان قاتل الأب أو الإنسان الذي عليه دم نتيجة أنه ارتكب جريمة قتل، إذا ما دخل البيت الحرام فهو يُؤمَّن إلى أن يخرج، وكانوا يُضيِّقون عليه، فلا يطعمه أحد، ولا يسقيه أحد ليضطر إلى الخروج، فيتم القصاص منه بعد خروجه من البيت الحرام، ولتظل حرمة البيت الحرام مُصَانة.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه أراد من تحريم القتال في البيت الحرام، صيانة وتكريمًا للكرامة الإنسانية.
ونحن نعلم أيضًا أن كل حدث من الأحداث يقتضي زمانًا، ويقتضي مكانًا.
وكان العرب دائمي الغارات على بعضهم البعض، فأراد الحق سبحانه أن يوجد مكان يحرم فيه القتال؛ فخصَّ البيت الحرام بذلك، وأراد سبحانه أن يوجد زمان يحرم فيه القتال؛ فكانت الأشهر الحرم؛ لان الحرب قد تكون سجالًا بين الناس وتوقظ فيهم الحمية والأنفة والعزة.
وكل واحد منهم يحب في ذاته أن ينتهي من الحرب، ولكنه لا يحب أن يجبن أمام الناس، فأراد الحق سبحانه أن يجعل لهم شيئًا يتوارون فيه من الزمان ومن المكان، فحرم القتال في الأشهر الحرم.
وما إن تأتي الأشهر الحرم حتى يعلن المقاتل من هؤلاء: لولا الأشهر الحرم لكنت قد أنزلت بخصمي الهزيمة الساحقة، وهو يقول ذلك ليداري كبرياءه؛ لأنه في أعماقه يتمنى انتهاء الحرب.
وكذلك حين يدخل مقاتل إلى البيت الحرام، هنا يقول مَنْ كان يحاربه: لو لم يدخل الحرم؛ لأذقته عذاب الهزيمة.
وبمضيِّ الزمان وبالمكث في المكان ينعم الناس بالأمن والسلام، وربما عشقوه فانتهوا من الحرب. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}
قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ}: إلى آخره: قد تقدَّم نظيره، والمفعول الثاني هنا محذوفٌ تقديره: أأَعْصيه، ويدلُّ عليه {إن عصيته}. وقال ابن عطية: هي مِنْ رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مَسَدَّ مفعولَيْنِ ل {أرأيتم}. قال الشيخ: والذي تقرَّر أنَّ أرأيت ضُمِّن معنى أخبرْني، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن، فجملةُ الشرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولَيْ علمت وأخواتها.
قوله: {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} الظاهرُ أنَّ {غيرَ} مفعولٌ ثانٍ لتَزيدونني. قال أبو البقاء: الأقوى هنا أن تكون {غير} استثناءً في المعنى، وهي مفعولٌ ثانٍ ل {تزيدونني}، أي: فما تزيدونني إلا تخسيرًا. ويجوز أن تكون {غير} صفةً لمفعولٍ محذوف، أي: شيئًا غير تخسير، وهو جيد في المعنى. ومعنى التفعيل هنا النسبةُ، والمعنى: غيرَ أن أُخْسِرَكم، أي: أَنْسبكم إلى التخسير، قاله الزمخشري. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ، أي: غير بضارِّه تخسيركم، قاله ابن عباس.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)}
قوله تعالى: {آيَةً}: نصب على الحال بمعنى علامة، والناصب لها: إمَّا ها التنبيه أو اسمُ الإِشارة؛ لِما تضمَّناه من معنى الفعل، أو فعلٍ محذوف.
قوله: {لَكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال من {آيةٍ}؛ لأنه لو تأخَّر لكان نعتًا لها، فلما قُدِّم انتصبَ حالًا. قال الزمخشري: فإن قلت بم تتعلَّقُ {لكم}؟ قلت: بآية حالًا منها متقدمة، لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحال. قال الشيخ: وهذا متناقض لأنه من حيث تعلَّق {لكم} ب {آية} كان معمولًا ل {آية}، وإذا كان معمولًا لها امتنع أن يكون حالًا منها، لأنَّ الحال تتعلَّق بمحذوف. قلت: ومثل هذا كيف يُعترض به على مِثْل الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصودَ بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟
وقرأت فرقة: {تأكلُ} بالرفع: إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحال.
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)} قوله تعالى: {فِي دَارِكُمْ}: قيل: هو جمعُ {دارَة} كساحة وساح وسُوح، وأنشدوا لأمية بن أبي الصلت:
له داعٍ بمكةَ مُشْمَعِلٌّ ** وآخرُ فوق دارَتِه يُنادي

قوله: {مَكْذُوبٍ} يجوز أن يكونَ مصدرًا على زِنة مفعول، وقد جاء منه أُلَيْفاظ نحو: المَجْلود والمَعْقول والميسور والمفتون، ويجوز أن يكونَ اسمَ مفعولٍ على بابه، وفيه حينئذ تأويلان، أحدُهما: غيرُ مكذوبٍ فيه، ثم حُذف حرف الجر فاتصل الضمير مرفوعًا مستترًا في الصفةِ، ومثلُه: {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] وقوله:
ويومٍ شَهِدْناه سليمى وعامرًا ** قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافلُهْ

والثاني: أنه جُعل هو نفسُه غيرَ مكذوب، لأنه قد وُفِّي به فقد صُدِّق. اهـ.

.تفسير الآيات (66- 68):

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
وأشار إلى تعقب العذاب للأيام وتسببه عن الوعيد المعين بقوله: {فلما جاء أمرنا} بالفاء بخلاف ما في قصة هود وشعيب عليهما السلام، أي مع مضي الأيام كان أول ما فعالنا أن: {نجينا} بنا لنا من العظمة أولياءنا: {صالحًا والذين آمنوا معه} من كيد قومهم، وبين أن إحسانه سبحانه لا يكون إلا فضلًا منه بقوله: {برحمة منا} وذلك أنه عليه السلام قال لهم: تصبحون غدًا يوم مؤنس- يعني الخميس- ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم عروبة- يعني الجمعة- ووجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم أول- أي الأحد- فقال التسعة رهط الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحًا، فإن كان صادقًا عجلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا قد كنا ألحقناه بناقته، فأتوه ليلًا ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم! ثم هموا به فقامت عشيرته دونهم ولبسوا السلاح وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدًا فقد وعدكم أن العذاب يكون بكم بعد ثلاث، فإن كان صادقًا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبًا، وإن كان كاذبًا فأنتم وراء ما تريدون، فانصرفوا فلما أصبحت وجوههم مصفرة عرفوا أنه قد صدقهم، فطلبوه ليقتلوه فجاء إلى بطن منهم يقال له (بنو غنم) فنزل على سيدهم رجل فغيبه عنده، فعدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه فقالوا: يا نبي الله! إنهم يعذبوننا لندلهم عليك، أفندلهم؟ قال: نعم، فدلوهم عليه فأتوه فقال الغنمي: نعم عندي ولا سبيل إليه، فتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم كذا ذكر ذلك البغوي عن ابن اسحاق ووهب وغيرهما مطولًا.
ولما ذكر نجاتهم من كل هلكة، ذكر نجاتهم من خصوص ما عذب به قومهم فقال: {ومن} أي ونجيناهم من: {خزي} أي ذل وفضيحة: {يومئذ} أي يوم إذ جاء أمرنا بإهلاكهم بالصيحة وحل بهم دونهم فرقًا بين أوليائنا وأعدائنا، وحذف {نجينا} هنا يدل على أن عذابهم دون عذاب عاد؛ ثم عقب ذلك بتعليله إهلاكًا وإنجاء باختصاصه بصفات القهر والغلبة والانتقام فقال: {إن ربك} أي المحسن إليك كما أحسن إلى الأنبياء من قبلك: {هو} أي وحده: {القوي} فهو يغلب كل شيء: {العزيز} أي القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه أو على الامتناع منه، من عز الشيء أي امتنع، ومنه العزاز- للأرض الصلبة الممتنعة بذلك عن التصرف فيها؛ والخزي: العيب الذي تظهر فضيحته ويستحي من مثله؛ ثم بين إيقاعه بأعدائه بعد إنجائه لأوليائه فقال معظمًا للأخذ بتذكير الفعل: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} وأشار إلى عظمة هذه الصيحة بإسقاط علامة التأنيث وسبب عنها قوله: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} أي ساقطين على وجوههم، وقيل: جاثين على الركب موتى لا حراك بهم، وتقدم سر التعبير بالديار مع الصيحة والدار مع الرجفة في الأعراف، وخصت هود بما ذكر فيها لأن مقصودها أعظم نظر إلى التفصيل، وكل من الديار والصيحة أقرب إلى ذلك.
ولما كان الجثوم كناية عن الموت أوضحه بقوله: {كأن} أي كأنهم: {لم يغنوا} أي يقيموا أغنياء لاهين بالغناء: {فيها} ثم نبه- على ما استحقوا به ذلك لمن لعله يغفل فيسأل- بقوله مفتتحًا بالأداة التي لا تقال إلا عند الأمور الهائلة: {ألا إن ثمودًا} قراءة الصرف دالة على الاستخفاف بهم لطيشهم في المعصية: {كفروا ربهم} أي أوقعوا التغطية والستر على المحسن إليهم بالخلق والرزق والإرسال وهو الظاهر وبصفاته وأفعاله، فلا يخفى على أحد أصلًا، فإيصال الفعل دون قصره كما في أكثر أضرابه بيان لغلظة كفرهم؛ ثم كرر ذلك تأكيدًا له وإعلامًا بتأبيد هلاكهم بقوله: {ألا بعدًا لثمود} ترك صرفهم في قراءة غير الكسائي إيذانًا بدوام لبثهم في الطرد والبعد؛ والصيحة: صوت عظيم من فم حي، والجثوم لدوام مكان واحد أو السقوط على الوجه، وقيل: القعود على الركب؛ وقال: {أصبحوا} زيادة في التخويف والتأسيف بما وقع لهم من التحسير لو أدركه أحد منهم لأن الإنسان يفرح إذا أصبح بقيامه من نومه مستريحًا قادرًا على ما يريد من الحركات للاستمتاع بما يشتهي من التصرفات، فأصبح هؤلاء- بعد هذه الصفة على ما قص الله- خفوتا أجمعين كنفس واحدة رجالًا ونساء صغارًا وكبارًا كأنهم بم يكونوا أصلًا، ولا أصدروا فصلًا ولا وصلًا كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة كأن لم يغنوا أي يقيموا لانقطاع آثارهم إلا ما بقي من أجسادهم الدالة على الخزي؛ والمغاني: المنازل، وأصل الغناء الاكتفاء؛ ومعنى {ألا} التنبيه؛ قال الرماني: وهي ألف الاستفهام دخلت على {لا} فالألف تقتضي معنى، و{لا} تنفي معنى، فاقتضى الكلام بهما معنى التنبيه مع نفي الغفلة- انتهى.
وكان حقيقته- والله أعلم- أن {لا} دخلت على ما بعدها فنفته، ثم دخلت عليها همزة الإنكار فنفتها، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات فرجع المعنى كما كان على أتم وجوه التنبيه والتأكيد، لأن إثبات المعنى بعد نفيه آكد من إثباته عريًا عن النفي ولاسيما إذا كان المفيد لذلك الإنكار، وهذا المعنى مطرد في ألا العرضية وهلا التخصيصية ونحوهما، ويمشي في كل صلة بأن تردها إلى أصل مدلولها في اللغة ثم تتصرف بما يقتضيه الحال- والله الهادي! ولما جاز الصرف في ثمود باعتبار أنه اسم أبي القبيلة وعدمه باعتبار إطلاقه على القبيلة اختير الصرف في النصب فقط لخفته. اهـ.